كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قَالَ: (وَالْقَوْلُ الثَّانِي) فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الرُّبُوبِيَّةِ أَنَّ الْجُهَّالَ وَالْحَشْوِيَّةِ إِذَا بَالَغُوا فِي تَعْظِيمِ شَيْخِهِمْ وَقُدْوَتِهِمْ، فَقَدْ يَمِيلُ طَبْعُهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِالْحُلُولِ، وَالِاتِّحَادِ، وَذَلِكَ الشَّيْخُ إِذَا كَانَ طَالِبًا لِلدُّنْيَا بَعِيدًا عَنِ الدِّينِ، فَقَدْ يُلْقِي إِلَيْهِمْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُونَ وَيَعْتَقِدُونَ، وَشَاهَدْتُ بَعْضَ الْمُزَوِّرِينَ مِمَّنْ كَانَ بَعِيدًا عَنِ الدِّينِ كَانَ يَأْمُرُ أَتْبَاعَهُ وَأَصْحَابَهُ بِأَنْ يَسْجُدُوا لَهُ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: أَنْتُمْ عَبِيدِي، فَكَانَ يُلْقِي إِلَيْهِمْ مِنْ حَدِيثِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ أَشْيَاءَ، وَلَوْ خَلَا بِبَعْضِ الْحَمْقَى مِنْ أَتْبَاعِهِ فَرُبَّمَا ادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مُشَاهَدًا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فَكَيْفَ يَبْعُدُ ثُبُوتُهُ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ؟.
(قَالَ): وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِيمَا كَانُوا مُخَالِفِينَ فِيهِ لِحُكْمِ اللهِ- وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُمْ قَبِلُوا مِنْهُمْ أَنْوَاعَ الْكُفْرِ فَكَفَرُوا بِاللهِ- فَصَارَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ- وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا فِي حَقِّهِمُ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ مُشَاهَدٌ وَوَاقِعٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِيِّ.
(يَقُولُ مُحَمَّد رَشِيد): إِنَّنَا أَوْرَدْنَا هَذَا عَنْ هَذَيْنِ الْمُفَسِّرَيْنِ مِنْ أَشْهَرِ مُفَسِّرِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَأَكْبَرِ نُظَّارِهَا؛ لِيَعْتَبِرَ بِهِ مُسْلِمُو هَذَا الْعَصْرِ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ شُيُوخَ مَذَاهِبِهِمُ الْمَوْرُوثَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، بِدُونِ نَصٍّ مِنْ كِتَابِ اللهِ قَطْعِيِّ الدِّلَالَةِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ الْقَطْعِيَّةِ الْمُتَّبَعَةِ بِالْعَمَلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَلَا مِنْ حَدِيثٍ صَحِيحٍ ظَاهِرِ الدِّلَالَةِ أَيْضًا، بَلْ فِيمَا يُخَالِفُ النُّصُوصَ وَكَذَا أُصُولَ أَئِمَّتِهِمْ أَيْضًا- وَالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَشَايِخَ الطُّرُقِ فِي بِدَعِهِمْ وَغُلُوِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ، وَيُوجَدُ فِيهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْ هُمْ مِثْلَ مَنْ ذَكَرَ الرَّازِيُّ، وَمَنْ هُمْ شَرٌّ مِنْهُمْ، وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ مُعَاصِرٍ مِنَ الدَّجَّالِينَ الْمُنْتَحِلِينَ لِلتَّصَوُّفِ فِي مِصْرَ، أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ الزَّائِرِينَ لَهُ مِمَّنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالْخُرَافَاتِ: إِنَّ مُرِيدِيَّ وَأَتْبَاعِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّنِي أَعْلَمُ الْغَيْبَ فَمَاذَا أَفْعَلُ؟ وَبَلَغَنِي عَنْ رَجُلَيْنِ لَا يَعْرِفُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَأَى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامَ أَحَدَ تَلَامِيذِ هَذَا الدَّجَّالِ يَقُولُ: نَوَيْتُ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لِسَيِّدِي الشَّيْخِ فُلَانٍ- أَوْ قَالَ: لِوَجْهِ الشَّيْخِ فُلَانٍ.
وَأَمَّا الْمُقَلِّدُونَ لِمُنْتَحِلِي الْفِقْهِ الْمَذْهَبِيِّ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَ بِآرَائِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ أَنَّهُ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ، وَإِنْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَنَصَّ الْقُرْآنِ، فَهَذَا دَاءٌ عَامٌّ قَلَّمَا كُنْتَ تَجِدُ قَبْلَ هَذِهِ السِّنِينَ الْأَخِيرَةِ فِي الْبَلَدِ الْكَبِيرِ أَحَدًا يُخَالِفُهُ، فَيُؤْثِرُ مَا صَحَّ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْلِ مَشَايِخِ مَذْهَبِهِ إِلَّا أَفْرَادًا غَيْرَ مُجَاهِرِينَ، وَنَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنْ رَأَيْنَا تَأْثِيرًا كَبِيرًا لِدَعْوَتِنَا الْمُسْلِمِينَ إِلَى هِدَايَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَصَارَ يُوجَدُ فِي مِصْرَ وَغَيْرِهَا أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ، وَمِنْهُمُ الدُّعَاةُ إِلَيْهَا، وَأُولُو الْجَمْعِيَّاتِ الَّتِي أُسِّسَتْ لِلتَّعَاوُنِ عَلَى نَشْرِهَا، عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِهِمَا. وَجَهْلِ بَعْضِهِمْ أَصْلَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، وَمَنْ جَدَّدَ نَشْرَهَا.
(وَقَالَ) السَّيِّدُ حَسَن صِدِّيق فِي تَفْسِيرِهِ (فَتْحِ الْبَيَانِ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ) مَا نَصُّهُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَزْجُرُ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، عَنِ التَّقْلِيدِ فِي دِينِ اللهِ، وَتَأْثِيرِ مَا يَقُولُهُ الْأَسْلَافُ، عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ. فَإِنَّ طَاعَةَ الْمُتَمَذْهِبِ لِمَنْ يَقْتَدِي بِقَوْلِهِ وَيَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِ مِنْ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ، وَقَامَتْ بِهِ حُجَجُ اللهِ وَبَرَاهِينُهُ، وَنَطَقَتْ بِهِ كُتُبُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ، هُوَ كَاتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِلْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ، بَلْ أَطَاعُوهُمْ، وَحَرَّمُوا مَا حَرَّمُوا، وَحَلَّلُوا مَا حَلَّلُوا، وَهَذَا هُوَ صَنِيعُ الْمُقَلِّدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَهُوَ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ شَبَهِ الْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَةِ، وَالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَةِ، وَالْمَاءِ بِالْمَاءِ. فَيَا عِبَادَ اللهِ، وَيَا أَتْبَاعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، مَا بَالُكُمْ تَرَكْتُمُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ جَانِبًا، وَعَمَدْتُمْ إِلَى رِجَالٍ هُمْ مِثْلُكُمْ فِي تَعَبُّدِ اللهِ لَهُمْ بِهِمَا، وَطَلَبِهِ لِلْعَمَلِ مِنْهُمْ بِمَا دَلَّا عَلَيْهِ وَأَفَادَاهُ؟ فَعَمِلْتُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْآرَاءِ الَّتِي لَمْ تُعَمَّدْ بِعِمَادِ الْحَقِّ، وَلَمْ تُعَضَّدْ بِعَضُدِ الدِّينِ، وَنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بَلْ تُنَادِي بِأَبْلَغِ نِدَاءٍ، وَتُصَوِّتُ بِأَعْلَى صَوْتٍ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَيُبَايِنُهُ، فَأَعَرْتُمُوهُمَا آذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، وَأَفْهَامًا مَرِيضَةً، وَعُقُولًا مَهِيضَةً، وَأَذْهَانًا كَلَيْلَةً، وَخَوَاطِرَ عَلِيلَةً، وَأَنْشَدْتُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ:
وَمَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ ** غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشَدِ

فَدَعُوا أَرْشَدَكُمُ اللهُ وَإِيَّايَ كُتُبًا كَتَبَهَا لَكُمُ الْأَمْوَاتُ مِنْ أَسْلَافِكُمْ، وَاسْتَبْدَلُوا بِهَا كِتَابَ اللهِ خَالِقِهِمْ وَخَالِقِكُمْ، وَمُتَعَبَّدِهِمْ وَمُتَعَبَّدِكُمْ، وَمَعْبُودِهِمْ وَمَعْبُودِكُمْ، وَاسْتَبْدَلُوا بِأَقْوَالِ مَنْ تَدْعُونَهُمْ بِأَئِمَّتِكُمْ، وَمَا جَاءُوكُمْ بِهِ مِنَ الرَّأْيِ أَقْوَالَ إِمَامِكُمْ وَإِمَامِهِمْ، وَقُدْوَتِهِمْ وَقُدْوَتِكُمْ وَهُوَ الْإِمَامُ الْأَوَّلُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
دَعُوا كُلَّ قَوْلٍ عِنْدَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَمَا آمِنٌ فِي دِينِهِ كَمُخَاطِرِ اللهُمَّ هَادِيَ الضَّالِّ مُرْشِدَ التَّائِهِ مُوَضِّحَ السَّبِيلِ اهْدِنَا إِلَى الْحَقِّ، وَأَرْشِدْنَا إِلَى الصَّوَابِ، وَأَوْضِحْ لَنَا مَنْهَجَ الْهِدَايَةِ، اهـ.
(أَقُولُ): وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ اتِّخَاذَ الْأَرْبَابِ غَيْرُ اتِّخَاذِ الْآلِهَةِ، وَأَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ، فَإِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ خَالِقُهُمْ، وَمُرَبِّيهِمْ بِنِعَمِهِ، وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ بِسُنَّتِهِ الْحَكِيمَةِ، وَشَارِعُ الدِّينِ لَهُمْ، وَأَمَّا الْإِلَهُ فَهُوَ الْمَعْبُودُ بِالْفِعْلِ، أَيِ: الَّذِي تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ قُلُوبُ الْعِبَادِ بِالْأَعْمَالِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَالتُّرُوكِ، لِلْقُرْبَةِ وَرَجَاءِ الثَّوَابِ وَمَنْعِ الْعِقَابِ عَنِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى، وَالْقُدْرَةِ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِالْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ وَغَيْرِ الْمَعْرُوفَةِ إِذْ هُوَ مُسَخِّرُهَا، وَبِغَيْرِهَا إِنْ شَاءَ، وَالْحَقِيقُ بِالْعِبَادَةِ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ الْمُدَبِّرُ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّ مِنَ الْبَشَرِ مَنْ يَتْرُكُ عِبَادَتَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ مَعَهُ أَوْ مِنْ دُونِهِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَّخِذُ أَصْنَامًا تَعْبُدُهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوهَا أَرْبَابًا، بَلْ شَهِدَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وَيُصَرِّحُونَ بِأَنَّ اللهَ الْخَالِقَ لِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَمُدَبِّرُ أَمْرِهِ، وَهُوَ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْحَقِيقُ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا أَحَدًا مِنْ دُونِهِ لَا بَشَرًا وَلَا مَلَكًا وَلَا شَيْئًا سُفْلِيًّا وَلَا عُلْوِيًّا.
فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ إِنْسَانًا أَوْ مَلَكًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ يَخْلُقُ كَمَا يَخْلُقُ اللهُ، أَوْ يَقْدِرُ عَلَى تَدْبِيرِ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْخَلْقِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِقُدْرَتِهِ الذَّاتِيَّةِ، غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْعَامَّةِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ كَأَمْثَالِهِ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ فَقَدِ اتَّخَذَهُ رَبًّا. وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْطَى أَيَّ إِنْسَانٍ حَقَّ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ بِوَضْعِ الْعِبَادَاتِ كَالْأَوْرَادِ الْمُبْتَدَعَةِ الَّتِي تُتَّخَذُ شَعَائِرَ مَوْقُوْتَةً كَالْفَرَائِضِ، وَبِالتَّحْرِيمِ الدِّينِيِّ الَّذِي يُتَّبَعُ خَوْفًا مِنْ سُخْطِ اللهِ وَرَجَاءً فِي ثَوَابِهِ- فَقَدِ اتَّخَذَهُ رَبًّا، وَأَمَّا إِذَا دَعَاهُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَخْلُوقُونَ بِمَا لَهُمْ مِنَ الْكَسْبِ فِي دَائِرَةِ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوْ سَجَدَ لَهُ أَوْ ذَبَحَ الْقَرَابِينَ لَهُ، وَذَكَرَ عَلَيْهَا اسْمَهُ، أَوْ طَافَ بِقَبْرِهِ وَتَمَسَّحَ بِهِ وَقَبَّلَهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَعَطْفِهِ أَوْ إِرْضَائِهِ اللهَ عَنْهُ، وَتَقْرِيبِهِ إِلَيْهِ زُلْفَى كَمَا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَيُقَبِّلُهُ- وَلَمْ يَعْتَقِدْ مَعَ هَذَا أَنَّهُ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُدَبِّرُ أُمُورَ الْعِبَادِ- فَقَدِ اتَّخَذَهُ إِلَهًا لَا رَبًّا، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَهُوَ الْمُشْرِكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ مَعًا كَمَا بَيَّنَّا هَذَا مِرَارًا كَثِيرَةً، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ الْقَطْعِيَّةِ الدِّلَالَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ شَارِعُ الدِّينِ، وَأَنَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُبَلِّغُ لَهُ عَنْهُ: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [42: 48] {ومَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [5: 99] وفَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ فَهَذِهِ أَنْوَاعُ الْحَصْرِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى الدِّلَالَاتِ. وَأَرْكَانُ الدِّينِ الَّتِي لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِنَصِّ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَوْ بَيَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لِمُرَادِهِ مِنْهُ ثَلَاثَةٌ:
(1) الْعَقَائِدُ.
(2) الْعِبَادَاتُ الْمُطْلَقَةُ وَالْمُقَيَّدَةُ بِالزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ الْعَدَدِ، كَكَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ الْمَعْدُودَةِ، الْمَشْرُوطِ فِيهَا رَفْعُ الصَّوْتِ.
(3) التَّحْرِيمُ الدِّينِيُّ. وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَيَثْبُتُ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيمَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ نَصٌّ، وَمَدَارُهُ عَلَى إِقَامَةِ الْمَصَالِحِ، وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَحَلِّهِ بِالتَّفْصِيلِ، وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَهَدْيُ السُّنَّةِ، وَعَمَلُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَكَلَامُهُمْ كَثِيرٌ فِي هَذَا، وَلاسيما التَّحْرِيمُ الدِّينِيُّ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُنَا هُنَا وَكَوْنُهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلٍ قَطْعِيِّ الرِّوَايَةِ وَالدِّلَالَةِ. نَقَلَ ابْنُ مُفْلِحٍ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يُطْلِقُوا الْحَرَامَ إِلَّا عَلَى مَا عُلِمَ تَحْرِيمُهُ قَطْعًا، وَذَكَرَ عَقِبَهُ أَنَّ فِي إِطْلَاقِ الْحَرَامِ عَلَى مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ رِوَايَتَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ. وَنَحْنُ نَقُولُ يَكْفِينَا هَدْيُ السَّلَفِ الصَّالِحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ تَرْجِيحًا لِلرِّوَايَةِ الْمُوَافِقَةِ لِمَا نَقَلَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَغَيْرُهُ وَتَضْعِيفًا لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَإِنْ جَرَى عَلَيْهَا الْكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ الْمُقَلِّدِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَتَبِعَهُمُ الْعَوَامُّ حَتَّى عَسَّرُوا مَا يَسَّرَهُ اللهُ مِنْ دِينِهِ، وَأَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَالنَّاسَ فِي أَشَدِّ الْحَرَجِ الَّذِي نَفَى اللهُ تَعَالَى قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [22: 78] و{مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [5: 6] و{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [2: 185].
وَرَوَى الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَنِ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَلَكِنْ بِعِبَارَةٍ أَخَصَّ وَأَقْوَى وَهِيَ:
أَدْرَكْتُ مَشَايِخَنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ فِي الْفُتْيَا أَنْ يَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، إِلَّا مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بَيِّنًا بِلَا تَفْسِيرٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ السَّائِبِ عَنْ رَبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ، وَكَانَ أَفْضَلَ التَّابِعِينَ أَنَّهُ قَالَ: إِيَّاكُمْ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ إِنَّ اللهَ أَحَلَّ هَذَا أَوْ رَضِيَهُ، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: لَمْ أُحِلَّ هَذَا وَلَمْ أَرْضَهُ- وَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَيَقُولُ اللهُ: كَذَبْتَ لَمْ أُحَرِّمْهُ، وَلَمْ أَنْهَ عَنْهُ. وَحَدَّثَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَفْتَوْا بِشَيْءٍ أَوْ نَهَوْا عَنْهُ قَالُوا هَذَا مَكْرُوهٌ وَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ. فَأَمَّا أَنْ نَقُولَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ فَمَا أَعْظَمَ هَذَا. اهـ.
وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هَذَا النَّقْلَ وَلَا مَضْمُونَهُ، بَلْ أَقَرَّهُ وَمَا كَانَ لِيُقِرَّ مِثْلُهُ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ.
وَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَنِ السَّلَفِ هُوَ الثَّابِتُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَكِبَارِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ. فَأَمَّا السُّنَّةُ وَعَمَلُ الصَّحَابَةِ فَأَقْوَى الْحُجَجِ فِيهِمَا مَا عُلِمَ نَصًّا وَعَمَلًا مِنْ عَدَمِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ تَحْرِيمًا عَامًّا تَشْرِيعِيًّا بِآيَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ دِلَالَةً ظَنِّيَّةً بِقوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [2: 219] بَلْ تَرَكَ الْأَمْرَ فِيهَا لِاجْتِهَادِ الْأَفْرَادِ فَمَنْ فَهِمَ مِنَ الْآيَةِ التَّحْرِيمَ تَرَكَهُمَا، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ ظَلَّ عَلَى الْأَخْذِ بِالْإِبَاحَةِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا أَوِ اعْتِقَادًا فَقَطْ كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الَّذِي ظَلَّ يُرَاجِعُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ وَيَدْعُو اللهَ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا إِلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَاتُ الْمَائِدَةِ الْقَطْعِيَّةُ الدِّلَالَةِ كَمَا بَيَّنَّا هَذَا فِي تَفْسِيرِهَا، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
وَأَمَّا أَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ فَمِنَ النَّقْلِ الْعَامِّ عَنْهُمْ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، وَمِنْهُ النُّصُوصُ الْخَاصَّةُ الْكَثِيرَةُ الْمَنْقُولَةُ عَنْهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي يَرَوْنَ حَظْرَهَا وَالتَّعْبِيرَ عَمَّا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ قَطْعِيٌّ مِنْهَا بِمِثْلِ أَكْرَهُ كَذَا، أَوْ لَا أَرَاهُ، أَوْ لَا أَفْعَلُهُ وِفَاقًا لِمَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ عَنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَمْثَالِهِ مِنَ التَّابِعِينِ. وَلَكِنْ قَسَّمَ بَعْضُ أَتْبَاعِ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ مَا كَانُوا يُصَرِّحُونَ بِكَرَاهَتِهِ إِلَى كَرَاهَةِ تَحْرِيمٍ وَكَرَاهَةِ تَنْزِيهٍ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ التَّحْرِيمَ هُوَ الْأَصْلَ الْمُرَادَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غُلُوًّا فِي الدِّينِ.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ الْفُرُوعِ فِي بَيَانِ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا يُسَمُّونَهُ مَذْهَبَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَوْلُهُ: لَا يَنْبَغِي، أَوْ لَا يَصِحُّ، أَوْ أَسْتَقْبِحُهُ، أَوْ هُوَ قَبِيحٌ، أَوْ لَا أَرَاهُ- لِلتَّحْرِيمِ. اهـ.
وَمِنْهُ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَ احْتِيَاطِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاتِّقَائِهِ تَحْرِيمَ شَيْءٍ عَلَى عِبَادِ اللهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ قَطْعِيَّةٍ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَتَسَاهُلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَغَيْرِهِمْ وَتَشْدِيدِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَأَحْمَدُ اللهَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ لِلتَّحْرِيمِ، فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مُفْلِحٍ نَفْسُهُ قَوْلًا آخَرَ مُسْتَنَدُهُ رِوَايَاتٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي عَدَمِ التَّحْرِيمِ. ثُمَّ قَالَ: وَفِي أَكْرَهُ أَوْ لَا يُعْجِبُنِي أَوْ لَا أُحِبُّهُ أَوْ لَا أَسْتَحْسِنُهُ أَوْ يَفْعَلُ كَذَا احْتِيَاطًا وَجْهَانِ. وَ: أُحِبُّ كَذَا أَوْ يُعْجِبُنِي أَوْ أَعْجَبُ إِلَيَّ، لِلنَّدْبِ وَقِيلَ لِلْوُجُوبِ إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ: وَجْهَانِ. يَعْنِي لِلْأَصْحَابِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ. وَفِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْأُولَى أَنْ يُنْظَرَ إِلَى الْقَرَائِنِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فَتُحْمَلُ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ. وَأَقُولُ: مَا كَانَ أَغْنَاهُمْ عَنْ مُجَارَاةِ غَيْرِهِمْ بِجَعْلِ كَلَامِهِ رَحِمَهُ اللهُ لِلتَّشْرِيعِ وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْهُ وَلَوْ بِالِاحْتِمَالِ، وَإِذَا كَانَ كَلَامُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الدَّالُّ عَلَى التَّحْرِيمِ بِالظَّنِّ الرَّاجِحِ الْمُحْتَمِلِ لِعَدَمِهِ بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يَجْعَلْهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ دَلِيلًا عَلَى التَّحْرِيمِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ وَيُلْزِمُوا الْأُمَّةَ الْعَمَلَ بِهِ، بَلْ تَرَكُوهُ لِاجْتِهَادِ الْأَفْرَادِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَ كَلَامَ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِكَلَامِهِ مُطْلَقًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ دَلِيلًا عَلَى التَّحْرِيمِ الْعَامِّ؟ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اجْتِهَادَ الْعَالِمِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُ الْأَخْذِ بِالتَّقْلِيدِ، وَمَنْعُ الْأَئِمَّةِ لَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْكَرَ فِي كِتَابِهِ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِرَأْيِهِ وَفَهْمِهِ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَسَمَّاهُ كَذَّابًا وَسَمَّى اتِّبَاعَهُ شِرْكًا، وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى النَّاسِ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي حَدِيثِ الثَّوْمِ وَالْبَصَلِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا أَحَلَّ اللهُ هَذَيْنِ بِالنُّصُوصِ الْعَامَّةِ كَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [2: 29] وَجَعَلَهُ الْعُلَمَاءُ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْأَحْكَامِ فَقَالُوا: الْأَصْلُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ أَوِ الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ.
وَالْعُمْدَةُ فِي تَفْسِيرِ اتِّخَاذِ رِجَالِ الدِّينِ أَرْبَابًا بِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآثَارِ- هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي كَوْنِ التَّحْرِيمِ عَلَى الْعِبَادِ إِنَّمَا هُوَ حَقُّ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ، وَكَوْنِهِ تَشْرِيعًا دِينِيًّا، وَإِنَّمَا شَارِعُ الدِّينِ هُوَ اللهُ تَعَالَى، فَإِذَا نِيطَ التَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ بِغَيْرِهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ إِشْرَاكًا بِنَصِّ قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ} [42: 21] وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ.